لبنان ينهار: اللجوء وعمل غير المستقر وتهميش

17/09/2021 |

المقال كتبته جنى نخّال

كيف واجهت النساء والطبقة العاملة الاقتصاد و الخطر و الوباء في لبنان اليوم؟ اذهب إلى capiremov.org واقرأ مقالة من جنى نخّال من المسيرة العالمية للمرأة في لبنان، مترجمة أو باللغة العربية.

Marwan Naamani/AP, 2019

منذ سنة وشهر، كتبنا تقريراً عن الوضع في لبنان بعنوان “لبنان: الجحيم في تموّز”. يبدو أنّنا لم نكن نعلم ما هو الجحيم بعد. فبينما تمرّ دول العالم أجمع بأزمات اقتصادية عديدة نتيجة لجائحة الكورونا في ظل الرأسمالية، وبأزمات بيئية نتيجة للاحتباس الحراري، ضربت لبنان بالإضافة إلى تلك الأزمات، كارثتان إضافيتان، هما الانهيار الاقتصادي وتفجير مرفأ بيروت.

وعندما نذكر الانهيار الاقتصادي، فهو يختلف عمّا تمرّ به باقي البلاد من ضائقة اقتصادية بأنه أتى نتيجة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية المدمّرة التي قضت على ما تبقّى من الاقتصاد اللبناني بعد الحرب الأهلية ووجّهته ليكون اقتصاداً ريعياً غير منتج، معتمداُ بالأساس على الخدمات على شكل قطاع المصارف والسياحة والعقارات وذلك بموافقة ومشاركة وانتفاع كل أحزاب السلطة حتى تلك التي تعتبر نفسها غير معنية بالاقتصاد. ممّا أوصل لبنان إلى انهيار اقتصادي يعتبره البنك الدولي[1] أحد أسوء ثلاث حالات في العالم، وهو الأسوء على الإطلاق في تاريخ الدولة اللبنانية. ومع انهيار قيمة الليرة اللبنانية بأكثر من عشر مرات بظرف سنة– من 1500 ليرة للدولار الواحد حتى أكثر من 20000 ليرة للدولار الواحد- وانهيار مؤسسات الدولة التي أفقرتها السياسات النيوليبرالية والنظام الاقتصادي الريعي وقزّمتها وأخذت مكتسباتها وضيّقت سلطتها، وجدت الطبقة العاملة نفسها والمهمشات\ين وحدهم في وجه غول السوق الحرّ والرأسمالية المتوحشة. ففي بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه اليوم ما يعادل 15 دولاراً، تناقش نائبة رئيس الحكومة زينة عكر والوزراء وحاكم مصرف لبنان في هذه المرحلة، رفع الدعم عن البنزين، ليصبح سعر صفيحة البنزين 20 دولاراً.

يتمظهر هذا الانهيار من خلال ما يمكن أن نراه في الإعلام العالمي والمحلي من طوابير الذلّ على محطات البنزين، نتيجة لانقطاع البنزين والمازوت. كما يجعل انقطاع الكهرباء والدواء الحياة غير ممكنة والعمل مستحيلاً، لمن ما زالوا\مازلن يملكون عملاً. بينما زادت أسعار المواد الغذائية أكثر من 400% في ظرف سنة واحدة[2].

هكذا، في سنة واحدة، وجدت الطبقة العاملة نفسها تحت خط الفقر-حذّرت الإيسكوا في تقرير لها[3] بأن أكثر من 55% من السكان في لبنان أصبحوا فقراء-، واضطرّت اللاجئات\ون للاعتماد أكثر فأكثر على المؤسّسات الدولية والجمعيات. تتدهور الأوضاع المعيشية للاجئات واللاجئين السوريين والفلسطينيين خاصة، إذ زاد الانهيار الاقتصادي من صعوبة الحصول على عمل، أو أدّى إلى عملهم في ظروف استغلالية، كما يزداد عليهم الضغط بسبب العيش في مخيمات مكتظة أو أحياء تفتقر إلى البنى التحتية والمسكن الآمن والصحي. ففي تقريرها عن وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان[4]، تُظهر الأونروا بأن اللاجئين يجدون أنفسهم اليوم بين ثلاث خيارات في لبنان: “الموت من الكورونا، الموت جوعاً أو الموت في قوارب الهجرة غير الشرعية.”

من جهة أخرى، وفيما تضطر النساء لتحمّل الأثر الأكبر لجائحة كورونا والانهيار الاقتصادي الحاصل، تحمل اللاجئات والعاملات المهاجرات، أعباءً إضافية. فبينما حُرمت اللاجئات الفلسطينيات والسوريات في لبنان من أدنى حقوقهن الاقتصادية لسنين، بالإضافة إلى أشكال الاستغلال العديدة والعنصرية التي يعانين منها، اليوم خفّت مساعدات المؤسسّات الدولية حتى أصبحت شبه معدومة. وقد شهد لبنان ظلماً كبيراً في حق العاملات المهاجرات، خاصة أولئك اللواتي تعملن في مجال العمل المنزلي، إذ يرزحن طوال سنين تحت الشروط غير الإنسانية لنظام الكفالة، ويرمين اليوم في الشوارع بسبب غياب فرص العمل وتخلّي أصحاب العمل عنهنّ بحجة الأزمة الاقتصادية.

وتنهار اليوم البنى التحتية للدولة والتي تؤمّن الحياة الكريمة كقطاع التعليم والسكن والصحة للأكثر تهميشاً. فقد أظهر ستوديو أشغال عامة في بحثه عن “السكن كقضية نسوية”[5] مدى تردّي الأمان السكني للنساء في لبنان، واضمحلال الحق في السكن خاصة للنساء المسنّات والعاملات المهاجرات واللاجئات في المناطق المتضرّرة من تفجير المرفأ. فكشف تقرير لمرصد السكن[6] مثلاً بأن شهري أيّار وحزيران (مايو ويونيو) شهدا تهديدات بالإخلاء لحوالي 33 امرأة تسكن وحدها من أصل 110 تهديدات للسكان.

على مستوى الصحة، وبينما نخشى الموجة الجديدة للكورونا والتي لن تستطيع المستشفيات تحمّلها، تتأثّر الصحة الإنجابية والجنسية للنساء، والتي تدهورت بسبب تدهور القطاع الصحي، وانكفاء الدولة عن تغطية العمليات ودعم الأدوية والفوط الصحية وحبوب منع الحمل، التي اختفت من الأسواق أو أصبحت أسعارها 20 ضعفاً ماكانته من سنة. كما تظهر الأبحاث بأن الانهيار الاقتصادي والتفجير وجائحة كورونا بالإضافة إلى الأزمات العديدة المتفرّقة، من حرائق الأحراج والتفلّت الأمني والاشتباكات الدورية والشحن العنصري الطائفي الطبقي المناطقي، أدّت إلى تدهور كبير في الحالة النفسية للسكان عامة[7] وللاجئات\ين خاصة[8]. كما يؤثّر انهيار البنى التحتية وانقطاع المازوت إلى تهشيم البنى التحتية التي تحتاجها الرعاية الصحية النفسية، فالخط الساخن للوقاية من الانتحار والذي بات خدمةً أساسية وحاجةً ملحّة لعدم خسارة المزيد من الناس، مهدّد اليوم بالتوقف بسبب أزمة الكهرباء.

وبشكل مترافق مع الأزمة الاقتصادية، وبينما ترفض السلطة -المتمثّلة بالوزراء والنواب، وزعماء الأحزاب وأصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان- تغيير السياسات الاقتصادية والإفراج عن ودائع الناس في المصارف، أتت جائحة كورونا لتعرّي غياب البنى التحتية الصحية والاجتماعية. وفي الوقت الذي تنهار فيه الليرة اللبنانية أمام الدولار بشكل دراماتيكي، تعمد السلطة إلى تفسير الواقع بأكاذيب وتحليلات غير واقعية وغير علمية، لاجئة إلى اجترار مؤامرات وهمية، واعتبار اللاجئات واللاجئين سبب الأزمة، واتّهام الشعب ب”تخزين الدولارات” في المنازل، أو اختلاق مؤامرة كونية ضد لبنان.

وبينما يبدو فشل المفاوضات مع صندوق النقد انتصاراً للطبقة العاملة والنساء والمهمّشين، فإن البديل أسوء. فتمسّك السلطة الحاكمة بالنموذج الرأسمالي النيوليبرالي يعني محاولتها التضحية بالمزيد من الفئات من أجل المحافظة على مكاسبها وسرقاتها، مجترّة كل يوم حلاً سحرياً جديداً وصفقة بلهاء أخرى، لا تنجح سوى ببيع الأحلام لجمهورها وتجييشه طائفياً ومناطقياً.   

لا حلّ قريبٍ في لبنان، ومن سيعاني أكثر هنّ وهم من عانوا قبلاً من كل أشكال الاستغلال. بمعنى أن الانهيار الحالي هو أزمة يشعر الجميع بها في لبنان، لكن الطبقة العاملة والنساء والمهمشات\ين واللاجئين\ات يشعرون بها بأشكال متعددة ومستويات أكثر، وتدمّر ما بنوه من شبكات حماية وتعاضد وتضامن وصمود. اليوم، تواجه كل هؤلاء تحديات لم يعهدوها من قبل، وتختفي الدولة في عزّ حاجتهنّ\م لها، ممّا يدفعهن\م نحو الزاوية الوحيدة المتبقية، وهي استغلال بعضهن\م البعض. الدولة مسؤولة عن كلّ ما نمرّ به اليوم، وهي مسؤولة بالذات عن تدمير وحدة الطبقة العاملة والنساء والمهمشات\ين واللاجئات\ين.


[1] https://documents1.worldbank.org/curated/en/394741622469174252/pdf/Lebanon-Economic-Monitor-Lebanon-Sinking-to-the-Top-3.pdf

[2] https://www.brookings.edu/blog/future-development/2021/04/15/why-syrian-refugees-in-lebanon-are-a-crisis-within-a-crisis/

[3] https://www.unescwa.org/news/lebanon-population-trapped-poverty

[4] https://www.unrwa.org/newsroom/press-releases/unrwa-raises-alarm-situation-palestine-refugees-lebanon

[5] https://publicworksstudio.com/ar/node/94

[6] https://www.instagram.com/p/CSEWcBAMCJ2/?utm_medium=copy_link

[7] https://www.reuters.com/article/us-lebanon-security-blast-mentalhealth-idUSKBN25K0T7

[8] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC7855303/


المقال كتبته جنى نخّال
جنى نخّال مخططة حضرية ومقاتلي في المسيرة العالمية للنساء في لبنان وعضوة في الحزب الشيوعي اللبناني.

مقالات ذات صلة